حوار مع الدكتور العبقري
أحمد زويل
----------------------------------
في البدء.. نود أن تعود بنا إلى فترة الطفولة والنشأة الأولى ..ما الذي تسترجعه الآن من ذكريات المنزل والأصدقاء والحي؟
- طفولتي كانت من أجمل أيام حياتي، رغم الشهرة والنجاح، فقد كانت طفولتي بسيطة ودينية، حيث كنت الابن الوحيد لأبويّ، لذلك حظيت بكل حب واحترام وامتنان، فكان الحب من الوالدين كبيراً لا مثيل له، حب الأمومة الصادق الصافي، حب مطلق وحنان لا حدود له .. وكنت الحب والأمل لهما، وكانت طفولتي والمراحل الأولى من سنوات عمري كلها صفاء وسعادة، تميزت بالهدوء، اطمأن قلبي بالدين، جذور شجرة حياتي كانت في البداية مغموسة في الإيمان والتقوى، تفتحت عيناي وقلبي على معان بسيطة مثل الصدق والحب والمودة .
وأتذكر نفسي وأنا طفل ألجأ مع أصحابي إلى المسجد كي نصلي، وتستريح أنفسنا مثل عصافير صغيرة في محراب الخشوع، وفي المسجد تعلمنا الاحترام والأدب والتواضع... هذا الجو الرائع ملأ نفسي أملاً وتفاؤلاً واطمئناناً، مما جعلني أهتم كثيراً بدروسي، كي أكون جديراً بهذا الحب وتلك الرعاية، وكان والدي يأمل أن أكون طبيباً، فكتب على باب حجرتي الصغيرة، وكراساتي: "الدكتور أحمد"!
أقول: إن هذه الطفولة السعيدة جعلتني دائماً أرى الدنيا بمنظار الأمل والتفاؤل والاطمئنان والسعادة، كانت أمي واحة من الحنان واللهفة عليّ، والشوق لي.. هذه العاطفة التي تغذيت عليها منحتني الثقة والثبات، وهي سر من أسرار نجاحي، ولذلك مهما كانت الصعاب والمشاكل في الدنيا إلا أنني دائما أجد قلبي مطمئناً، لأن هناك من ينتظرني ويقويني ويسندني .
وقد جمعتني بأصدقائي علاقة حميمة، وأوقات لطيفة عذبة، فقد كنا نذاكر دروسنا معاً، ونتنزّه معاً في جو من الألفة والمودة الصادقة، الذي لم تشبه شائبة تعكّر صفوه، أو تكدّر براءته وعذوبته.
لم يكن من أحلامنا امتلاك سيارة خاصة ولا شقة، ولا أموال كثيرة، وكانت أسعد أوقاتنا نقضيها في أن نسير مع بعضنا البعض من منطقة محرم بك إلى محطة الرمل بالإسكندرية.
مرحلة الجامعة والشباب
وماذا عن مرحلة الشباب والطموح، وبالذات مرحلة الجامعة؟
- الحمد لله، أنني أنهيت مرحلة الثانوية العامة بجد وتفوق، والتحقت بكلية العلوم.. وعندما ذهبت للمرة الأولى إلى جامعة الإسكندرية، لم أكن أعرف ما العلم، لكن كان بداخلي حب الاستكشاف، فأنا أحببت أن أسبح في ما لم أعرفه، كانت الجامعة بالنسبة لي هذا العالم الجديد الذي أريد الغوص فيه.
ذهبت للمرة الأولى إلى الجامعة مع خالي، وبكيت ولا أدري لماذا بكيت؟ وكانت كلية العلوم في ذلك الوقت بمحرم بك .. المباني العتيقة لها مهابتها، أساتذة الجامعة والطلبة تنظر لهم بكل إعجاب ورهبة، تمنيت منذ أول يوم من أيام العام الجامعي أن أصبح واحداً مثل هؤلاء الأساتذة، وعندما التحقت بكلية العلوم شعرت بانجذاب نحو مادة الرياضيات، وكان أستاذي في الجامعة أستاذاً رائعاً في أسلوب تدريسه .
كانت حياتي مليئة بالنشاط والبحث والمراجعة والدراسة، وساعدني على ذلك اهتمام الأساتذة بالطلاب اهتماماً كبيراً، فكنا نحصل على المراجع منهم، وكان عدد الطلاب قليلاً، وكان الأساتذة يعرفون الطلبة بالاسم، فالعلاقة بينهم كانت حميمة، وأحياناً كنا نأخذ المحاضرات في مكاتب الأساتذة .
وقد كنت أحصل على مكافأة شهرية من الجامعة وهي "مكافأة التفوق"، كانت هذه المكافأة راتب معيد تقريباً، فنفعتني لأنني كنت أشتري مراجع كثيرة.
ونشبت منافسة جميلة بيني وبين سبعة من زملائي، يحدونا الأمل في الحصول على أحسن الدرجات، لنكون ضمن أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، كان المنافس القوي لي هو الدكتور عادل نجيب، فكان طالباً ممتازاً، وكانت المنافسة بيننا بكل شرف وأمانة، ولحسن حظي كان ترتيبي الأول، فاستطعت أن أحصل على تقدير "امتياز مع مرتبة الشرف"، ثم عملت معيداً بقسم الكيمياء بكلية العلوم بجامعة الإسكندرية.
الهجرة إلى أمريكا
ترى، كيف .. ومتى بدأت حكاية الهجرة والسفر إلى أمريكا؟
- بعد حصولي على الماجستير، طلبت الحصول على منحة في أمريكا لدراسة الدكتوراه، لكنهم رفضوا في الجامعة بحجة أنني صغير السن، ويجب أن يمر عامان على التعيين حتى يمكنني السفر، لكنني لم أيأس، فبدأت أراسل بعض الجامعات الأمريكية أملاً في الحصول على منحة لدراسة الدكتوراه هناك.
وبالفعل، فقد تلقيت رداً من جامعة "بنسلفانيا" بالموافقة على المنحة، وتكفلهم بكل المصروفات، ومرتب قدره 300دولار أيضاً، وكان مرتبي في الجامعة آنذاك 20جنيهاً مصرياً، ورغم هذا رفض المسئولون بالكلية هذا العرض، لأنهم يريدون أن تكون المنحة موجهة لإدارة الجامعة، وتختار الجامعة الإنسان المناسب لهذه المنحة!
ولم أيأس - أيضاً - فحاولت إقناع المسئولين بالجامعة والكلية بأهمية المنحة بالنسبة لي، وبعد محاولات عديدة وافقوا بشرط أن أحصل على موافقة كتابية من جميع المعيدين بعدم رغبة أي منهم في الحصول على هذه المنحة .
لحظة مصيرية
لماذا اخترت دراسة "الليزر" بالذات.. مع أن هذا التخصص لم يكن مطروحاً بقوة في ذلك الوقت، أو لم يكن ذا أولوية لدى الباحثين والأكاديميين، مثلما أصبحت الأهمية والحاجة إليه الآن؟
- قد تتعجب، ربما كان الحظ الذي يخص الله به بعض الناس، فما حدث هو أنني فور وصولي إلى أمريكا، أعطاني أستاذي الأمريكي بحثاً معيناً لأعمل فيه، وكان بصراحة ينظر إليّ على أنني دارس قادم من بلاد فقيرة علمياً، ولو كان أي شخص آخر في مكاني لدرس ما أعطاه له أستاذه، ولكن حاسة غامضة، وشعور لا أعرف ماهيته جعلني أرفض موضوع هذا البحث، وطلبت تحديد مقابلة مع هذا الأستاذ الأمريكي. وقلت له بثقة: ليس هذا هو النمط العلمي الذي أحبه... فصعق الأستاذ الأمريكي مما سمع، وفغر فاه مندهشاً متعجباً يتساءل في نفسه: كيف يتحدث هذا الطالب الشرقي الذي أتى من بلاد فقيرة في العلم بهذا الرأي؟!
أعتقد أن هذه اللحظة - بالذات - كانت هي اللحظة المصيرية في حياتي، ويبدو أن الأستاذ الأمريكي أعجب باستقلاليتي، واعتزازي برأيي، فوافقني ونزل على رغبتي، ومن يومها اتجهت إلى دراسة الليزر حتى هذه اللحظة.
هل لك أن تحدثنا - باختصار شديد - عن (الليزر)؟
- الليزر عبارة عن شعاع ضوئي مثل الذي يخرج من أي مصباح كهربائي، لكن هذا الشعاع أمكن بواسطة الطرق الفنية إخراجه في شكل عمود أو خط مستقيم أو تكبيره وتضخيمه كما يحدث للصوت، الذي يمكن تكبيره عشرات ومئات المرات.. فهذه الفكرة في تكبير الصوت استخدموها أيضاً في تكبير الضوء مما نتج عنه شعاع الليزر:
لا أنبهر ... ولكن أتعايش
ما هي العقبات التي واجهتك خلال مشوارك العلمي في الولايات المتحدة الأمريكية؟
- كان هناك بعض العقبات، وقد تختلف الصعوبات التي تواجه الوافد الجديد طبقاً لأشياء كثيرة منها: طبيعة عمله، والدائرة التي يمارس فيها أنشطته الحياتية.. ولعل أهم ما كان يشغل بالي هو كيفية الدخول إلى المجتمع الأكاديمي هناك، وهنا كانت الصعوبة الحقيقية، فلم يكن مألوفاً لديهم وجود عربي أو مصري بارز في العلوم، أو في الطب، وكان مطلوباً مني أن أبرهن لهم أن المصريين والعرب قادرون على الإنجازات العلمية الجديدة، والحمد لله كنت أول أستاذ مصري وعربي يحتل موقعاً متميزاً في جامعة "كالتك" بكاليفورنيا الذي يعد التدريس بها من الأمور الصعبة جداً.
ثم كانت هناك نقطة أخرى، وهي أن أتعلم ثقافة هذا المجتمع التي تختلف عن ثقافة مجتمعاتنا الشرقية، وأنا عندي خاصيّة أحبها جداً، وهي أنني لا أنبهر بشيء، لذلك لم أكن منبهراً بما رأيته في المجتمع الأمريكي، لأنني ذهبت إلى هناك من أجل العلم.
وكنت دائماً أضع أمام عيني ايجابيات هذا المجتمع وأتعايش معها، وليس مفروضاً عليّ أن أتقبل سيئاته من وجهة نظري، والحمد لله أنني ذهبت إلى أمريكا ومعي التقاليد المصرية، والثقافة الشرقية، والعقيدة الإسلامية، ومازلت إلى اليوم أحافظ عليها، وأنا كل فخري واعتزازي أنني إنسان متديّن وشرقي محافظ جداً. واعتقد أنه يجب علينا أن نأخذ ما ينفعنا من كل الثقافات والحضارات، دون أن نفقد تقاليدنا وخصوصيتنا وهويتنا وعقيدتنا.
الفمتو ساكند
ما هي تفاصيل الاكتشاف الذي توصلت إليه، وأطلقوا عليه "الفمتو ساكند"؟!
- بالفعل، كان إنجازاً علمياً فريداً من نوعه - بفضل الله -، لأن مثل هذه الاكتشافات لا تحدث كثيراً في تاريخ البشرية، وهم يعلمون ذلك، لذلك حصلت في الولايات المتحدة على "جائزة فرانكلين"، وهي تعد أعرق وأرقى وسام في أمريكا، للعلماء الأفذاذ، الذين يحققون إنجازات واختراعات غير مسبوقة تعمل على تقدم البشرية، وتعادل عندهم جائزة نوبل... وقد حصل على هذه الجائزة عدد قليل من العباقرة الموهوبين مثل: أينشتين، أديسون، جراهام بل، ماري كوري، وكنت أنا آخر من فاز بهذه الجائزة، وتم تكريمي في حفل كبير ضم خمسة آلاف مدعو من أشهر شخصيات العالم، وكان من بينهم عدد من رؤساء الولايات المتحدة، وكانت هذه لحظة تاريخية في حياتي، أثّرت في وجداني كثيراً عندما تسلمت الميدالية، فقد شدّ على يديَّ عدد من العلماء الأفذاذ، وهم يقولون: شكراً.. وهذا يدل على أن العالم مُمتنّ لي، أما الاكتشاف الذي قمت به ونلت عنه هذه الجائزة سنة 1988م فيمكن تلخيصه في ثلاث نقاط رئيسة هي:
أولاً، قدمت أبحاثاً مثمرة في الكيمياء. ثانياً، اكتشاف أصغر وحدة زمنية حتى الآن، وهي "الفمتو ثانية" وهي تعادل 1على مليون من البليون من الثانية. ثالثاً، ابتكار كاميرا الليزر، التي تمكنت بها من تصوير الجزئيات الدقيقة، وتحديد حركاتها في أي مركب من خلال الزمن الجديد..
هناك من يتساءل بحيرة: ما هي أهمية هذا الاكتشاف العلمي الذي توصل إليه الدكتور "زويل" بالنسبة لنا كأفراد ومجتمعات؟
- "الفامتو سكند" هو فتح علمي للوصول لهذا العامل الزمني لهذه الوحدة الزمنية الجديدة التي لا يعرف العالم عنها شيئاً، وستحدث انقلاباً علمياً وتحولات رهيبة في الطب بفروعه والكيمياء والصناعة والزراعة. أنا اكتشفت زمناً أصغر من الثانية.. زمناً أقل من الثانية بمليون من البليون من الثانية، هذا معناه ببساطة أنني لدي القدرة الزمنية أن أجعلك ترى فيلماً في السينما عن الجزئيات طوله 32مليون سنة، لكي أستطيع أن أجعلك ترى كل ثانية منه.
بمعنى آخر، أنا توصلت إلى تصوير حركة الجزيء، ولو حركته ثانية واحدة أستطيع أن أرى كل فمتو ثانية من حركته. فالآن باكتشاف هذا الزمن الجديد نستطيع أن نصور وندرس الخلية في جسم الإنسان، ونعرف هل الجسم مثلاً سيصاب بمرض السكر أم لا، وإذا كان الجسم سيصاب نستطيع أن نعالج الجزيء، نستطيع أن نصل إلى أن نعرف إذا أخطأت الخلية مثلاً في تنفيذ عملها للحظة واحدة يصاب الجسم بالسرطان، ويمكن أن نمنع الخلية من ذلك.
أضف إلى ذلك، أنه يمكن باستخدام الليزر، وهذا الزمن الجديد "الفمتو" إجراء العمليات الجراحية بدون فتح أو ألم، وبأقل التكاليف، عن طريق تحديد الطبيب لموضع الألم والخلل، وإعطاء جرعات من ضوء الليزر، فتندفع إلى إصلاح الخلل الذي يصيب الخلية.
وكذلك، (للفمتو ثانية) تطبيقات هائلة في ميادين كثيرة لا حد لها، مثل: تخليق مواد جديدة، وعلوم الفضاء، والاتصالات، والاليكترونات، وغيرها.
الطب الجزيئي بعد نوبل
نود أن نعرف منك كيف وقع عليك خبر فوزك بجائزة "نوبل"؟!
- كانت لحظة من اللحظات الوجدانية أو الشعورية التي يصعب على المرء أن يترجمها بلسانه، لقد تجمدت لعدة لحظات بعد المكالمة، ولم أصدق، ثم قبّلت أطفالي، وبلّغتهم بالخبر. وأذكر أنه عندما ذهبت إلى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا لحضور مؤتمر صحفي عقدته هناك، كنت مصاباً بالبرد، لكن يبدو أن إبلاغي بنبأ فوزي بنوبل قتل فيروس المرض وشفاني الله من البرد.
إلى جانب علمك واجتهادك.. هل تعتبر نفسك من المحظوظين؟!
- أنا سعيد الحظ بالفعل، فمثلاً جائزة نوبل، لأول مرة تمنح لمصري عربي، كما أنني حصلت عليها وعمري 53سنة، وهي عادة تمنح لمن تتراوح أعمارهم بين 65- 85سنة، وهذا معناه أن مشواري العلمي سيكون حافلاً بإذن الله.
هل نوبل هي نهاية المطاف - أو بمعنى آخر: ماذا بعد نوبل؟؟
- أملي في السنوات العشر المقبلة أن نتمكن من معرفة الطب الجزيئي بصورة واضحة لأول مرة في تاريخ العلم، وأن نرى تطبيقاته في خدمة البشرية.
أما من الناحية الشخصية، فأتمنى من الله أن تكون جائزة نوبل فاتحة خير على التقدم العلمي والتكنولوجي في مصر والعالم العربي، خاصة أن المشرق العربي هو أرض الرسالات، وقدم أولى الحضارات في تاريخ البشرية.
الوضع العلمي العربي
ما دمت تطرقت لهذا الجانب.. دعنا نسألك عن تقييمك للوضع العلمي في العالم العربي؟
- للأسف.. نحن العرب مشغولون بقضايانا اليومية، كالعمل والدراسة والمواصلات والطعام، لكننا لا نهتم بمناقشة القضايا العلمية والثقافية، قليلون جداً هم الذين يفعلون ذلك.. فليس لدينا ما يسمى بالمجتمع العلمي، أما الشعوب المتقدمة، فهي مشغولة بكل جديد في العلم والعلم، وفي كل المجالات، فتجد الرجل العادي في الغرب لديه معلومات مدنية في العلوم السياسية والاقتصاد، فهذا يخلق ما يسمى بالمجتمع العلمي، بمعنى أن رجل الشارع العادي لا يكون بعيداً عن الأحداث العلمية، ودائماً يبحث عن أخبار العلم وأين موضعه وموضع بلده على خريطة العالم الجديدة.
لذلك لا بد من إعادة صياغة كاملة لحياتنا الاجتماعية، ولا بد من وضع مشروع قومي لصياغة الاتجاه الثقافي والعلمي، بحيث أننا لا نُضيّع الوقت بلا فائدة.
فالبحث العلمي عندنا في مصر والعالم العربي يتميز بالفردية، ومعظم النتائج التي يتوصل إليها هي نتائج فردية، فينقصنا البحث الجماعي، أو فر
أحمد زويل
----------------------------------
في البدء.. نود أن تعود بنا إلى فترة الطفولة والنشأة الأولى ..ما الذي تسترجعه الآن من ذكريات المنزل والأصدقاء والحي؟
- طفولتي كانت من أجمل أيام حياتي، رغم الشهرة والنجاح، فقد كانت طفولتي بسيطة ودينية، حيث كنت الابن الوحيد لأبويّ، لذلك حظيت بكل حب واحترام وامتنان، فكان الحب من الوالدين كبيراً لا مثيل له، حب الأمومة الصادق الصافي، حب مطلق وحنان لا حدود له .. وكنت الحب والأمل لهما، وكانت طفولتي والمراحل الأولى من سنوات عمري كلها صفاء وسعادة، تميزت بالهدوء، اطمأن قلبي بالدين، جذور شجرة حياتي كانت في البداية مغموسة في الإيمان والتقوى، تفتحت عيناي وقلبي على معان بسيطة مثل الصدق والحب والمودة .
وأتذكر نفسي وأنا طفل ألجأ مع أصحابي إلى المسجد كي نصلي، وتستريح أنفسنا مثل عصافير صغيرة في محراب الخشوع، وفي المسجد تعلمنا الاحترام والأدب والتواضع... هذا الجو الرائع ملأ نفسي أملاً وتفاؤلاً واطمئناناً، مما جعلني أهتم كثيراً بدروسي، كي أكون جديراً بهذا الحب وتلك الرعاية، وكان والدي يأمل أن أكون طبيباً، فكتب على باب حجرتي الصغيرة، وكراساتي: "الدكتور أحمد"!
أقول: إن هذه الطفولة السعيدة جعلتني دائماً أرى الدنيا بمنظار الأمل والتفاؤل والاطمئنان والسعادة، كانت أمي واحة من الحنان واللهفة عليّ، والشوق لي.. هذه العاطفة التي تغذيت عليها منحتني الثقة والثبات، وهي سر من أسرار نجاحي، ولذلك مهما كانت الصعاب والمشاكل في الدنيا إلا أنني دائما أجد قلبي مطمئناً، لأن هناك من ينتظرني ويقويني ويسندني .
وقد جمعتني بأصدقائي علاقة حميمة، وأوقات لطيفة عذبة، فقد كنا نذاكر دروسنا معاً، ونتنزّه معاً في جو من الألفة والمودة الصادقة، الذي لم تشبه شائبة تعكّر صفوه، أو تكدّر براءته وعذوبته.
لم يكن من أحلامنا امتلاك سيارة خاصة ولا شقة، ولا أموال كثيرة، وكانت أسعد أوقاتنا نقضيها في أن نسير مع بعضنا البعض من منطقة محرم بك إلى محطة الرمل بالإسكندرية.
مرحلة الجامعة والشباب
وماذا عن مرحلة الشباب والطموح، وبالذات مرحلة الجامعة؟
- الحمد لله، أنني أنهيت مرحلة الثانوية العامة بجد وتفوق، والتحقت بكلية العلوم.. وعندما ذهبت للمرة الأولى إلى جامعة الإسكندرية، لم أكن أعرف ما العلم، لكن كان بداخلي حب الاستكشاف، فأنا أحببت أن أسبح في ما لم أعرفه، كانت الجامعة بالنسبة لي هذا العالم الجديد الذي أريد الغوص فيه.
ذهبت للمرة الأولى إلى الجامعة مع خالي، وبكيت ولا أدري لماذا بكيت؟ وكانت كلية العلوم في ذلك الوقت بمحرم بك .. المباني العتيقة لها مهابتها، أساتذة الجامعة والطلبة تنظر لهم بكل إعجاب ورهبة، تمنيت منذ أول يوم من أيام العام الجامعي أن أصبح واحداً مثل هؤلاء الأساتذة، وعندما التحقت بكلية العلوم شعرت بانجذاب نحو مادة الرياضيات، وكان أستاذي في الجامعة أستاذاً رائعاً في أسلوب تدريسه .
كانت حياتي مليئة بالنشاط والبحث والمراجعة والدراسة، وساعدني على ذلك اهتمام الأساتذة بالطلاب اهتماماً كبيراً، فكنا نحصل على المراجع منهم، وكان عدد الطلاب قليلاً، وكان الأساتذة يعرفون الطلبة بالاسم، فالعلاقة بينهم كانت حميمة، وأحياناً كنا نأخذ المحاضرات في مكاتب الأساتذة .
وقد كنت أحصل على مكافأة شهرية من الجامعة وهي "مكافأة التفوق"، كانت هذه المكافأة راتب معيد تقريباً، فنفعتني لأنني كنت أشتري مراجع كثيرة.
ونشبت منافسة جميلة بيني وبين سبعة من زملائي، يحدونا الأمل في الحصول على أحسن الدرجات، لنكون ضمن أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، كان المنافس القوي لي هو الدكتور عادل نجيب، فكان طالباً ممتازاً، وكانت المنافسة بيننا بكل شرف وأمانة، ولحسن حظي كان ترتيبي الأول، فاستطعت أن أحصل على تقدير "امتياز مع مرتبة الشرف"، ثم عملت معيداً بقسم الكيمياء بكلية العلوم بجامعة الإسكندرية.
الهجرة إلى أمريكا
ترى، كيف .. ومتى بدأت حكاية الهجرة والسفر إلى أمريكا؟
- بعد حصولي على الماجستير، طلبت الحصول على منحة في أمريكا لدراسة الدكتوراه، لكنهم رفضوا في الجامعة بحجة أنني صغير السن، ويجب أن يمر عامان على التعيين حتى يمكنني السفر، لكنني لم أيأس، فبدأت أراسل بعض الجامعات الأمريكية أملاً في الحصول على منحة لدراسة الدكتوراه هناك.
وبالفعل، فقد تلقيت رداً من جامعة "بنسلفانيا" بالموافقة على المنحة، وتكفلهم بكل المصروفات، ومرتب قدره 300دولار أيضاً، وكان مرتبي في الجامعة آنذاك 20جنيهاً مصرياً، ورغم هذا رفض المسئولون بالكلية هذا العرض، لأنهم يريدون أن تكون المنحة موجهة لإدارة الجامعة، وتختار الجامعة الإنسان المناسب لهذه المنحة!
ولم أيأس - أيضاً - فحاولت إقناع المسئولين بالجامعة والكلية بأهمية المنحة بالنسبة لي، وبعد محاولات عديدة وافقوا بشرط أن أحصل على موافقة كتابية من جميع المعيدين بعدم رغبة أي منهم في الحصول على هذه المنحة .
لحظة مصيرية
لماذا اخترت دراسة "الليزر" بالذات.. مع أن هذا التخصص لم يكن مطروحاً بقوة في ذلك الوقت، أو لم يكن ذا أولوية لدى الباحثين والأكاديميين، مثلما أصبحت الأهمية والحاجة إليه الآن؟
- قد تتعجب، ربما كان الحظ الذي يخص الله به بعض الناس، فما حدث هو أنني فور وصولي إلى أمريكا، أعطاني أستاذي الأمريكي بحثاً معيناً لأعمل فيه، وكان بصراحة ينظر إليّ على أنني دارس قادم من بلاد فقيرة علمياً، ولو كان أي شخص آخر في مكاني لدرس ما أعطاه له أستاذه، ولكن حاسة غامضة، وشعور لا أعرف ماهيته جعلني أرفض موضوع هذا البحث، وطلبت تحديد مقابلة مع هذا الأستاذ الأمريكي. وقلت له بثقة: ليس هذا هو النمط العلمي الذي أحبه... فصعق الأستاذ الأمريكي مما سمع، وفغر فاه مندهشاً متعجباً يتساءل في نفسه: كيف يتحدث هذا الطالب الشرقي الذي أتى من بلاد فقيرة في العلم بهذا الرأي؟!
أعتقد أن هذه اللحظة - بالذات - كانت هي اللحظة المصيرية في حياتي، ويبدو أن الأستاذ الأمريكي أعجب باستقلاليتي، واعتزازي برأيي، فوافقني ونزل على رغبتي، ومن يومها اتجهت إلى دراسة الليزر حتى هذه اللحظة.
هل لك أن تحدثنا - باختصار شديد - عن (الليزر)؟
- الليزر عبارة عن شعاع ضوئي مثل الذي يخرج من أي مصباح كهربائي، لكن هذا الشعاع أمكن بواسطة الطرق الفنية إخراجه في شكل عمود أو خط مستقيم أو تكبيره وتضخيمه كما يحدث للصوت، الذي يمكن تكبيره عشرات ومئات المرات.. فهذه الفكرة في تكبير الصوت استخدموها أيضاً في تكبير الضوء مما نتج عنه شعاع الليزر:
لا أنبهر ... ولكن أتعايش
ما هي العقبات التي واجهتك خلال مشوارك العلمي في الولايات المتحدة الأمريكية؟
- كان هناك بعض العقبات، وقد تختلف الصعوبات التي تواجه الوافد الجديد طبقاً لأشياء كثيرة منها: طبيعة عمله، والدائرة التي يمارس فيها أنشطته الحياتية.. ولعل أهم ما كان يشغل بالي هو كيفية الدخول إلى المجتمع الأكاديمي هناك، وهنا كانت الصعوبة الحقيقية، فلم يكن مألوفاً لديهم وجود عربي أو مصري بارز في العلوم، أو في الطب، وكان مطلوباً مني أن أبرهن لهم أن المصريين والعرب قادرون على الإنجازات العلمية الجديدة، والحمد لله كنت أول أستاذ مصري وعربي يحتل موقعاً متميزاً في جامعة "كالتك" بكاليفورنيا الذي يعد التدريس بها من الأمور الصعبة جداً.
ثم كانت هناك نقطة أخرى، وهي أن أتعلم ثقافة هذا المجتمع التي تختلف عن ثقافة مجتمعاتنا الشرقية، وأنا عندي خاصيّة أحبها جداً، وهي أنني لا أنبهر بشيء، لذلك لم أكن منبهراً بما رأيته في المجتمع الأمريكي، لأنني ذهبت إلى هناك من أجل العلم.
وكنت دائماً أضع أمام عيني ايجابيات هذا المجتمع وأتعايش معها، وليس مفروضاً عليّ أن أتقبل سيئاته من وجهة نظري، والحمد لله أنني ذهبت إلى أمريكا ومعي التقاليد المصرية، والثقافة الشرقية، والعقيدة الإسلامية، ومازلت إلى اليوم أحافظ عليها، وأنا كل فخري واعتزازي أنني إنسان متديّن وشرقي محافظ جداً. واعتقد أنه يجب علينا أن نأخذ ما ينفعنا من كل الثقافات والحضارات، دون أن نفقد تقاليدنا وخصوصيتنا وهويتنا وعقيدتنا.
الفمتو ساكند
ما هي تفاصيل الاكتشاف الذي توصلت إليه، وأطلقوا عليه "الفمتو ساكند"؟!
- بالفعل، كان إنجازاً علمياً فريداً من نوعه - بفضل الله -، لأن مثل هذه الاكتشافات لا تحدث كثيراً في تاريخ البشرية، وهم يعلمون ذلك، لذلك حصلت في الولايات المتحدة على "جائزة فرانكلين"، وهي تعد أعرق وأرقى وسام في أمريكا، للعلماء الأفذاذ، الذين يحققون إنجازات واختراعات غير مسبوقة تعمل على تقدم البشرية، وتعادل عندهم جائزة نوبل... وقد حصل على هذه الجائزة عدد قليل من العباقرة الموهوبين مثل: أينشتين، أديسون، جراهام بل، ماري كوري، وكنت أنا آخر من فاز بهذه الجائزة، وتم تكريمي في حفل كبير ضم خمسة آلاف مدعو من أشهر شخصيات العالم، وكان من بينهم عدد من رؤساء الولايات المتحدة، وكانت هذه لحظة تاريخية في حياتي، أثّرت في وجداني كثيراً عندما تسلمت الميدالية، فقد شدّ على يديَّ عدد من العلماء الأفذاذ، وهم يقولون: شكراً.. وهذا يدل على أن العالم مُمتنّ لي، أما الاكتشاف الذي قمت به ونلت عنه هذه الجائزة سنة 1988م فيمكن تلخيصه في ثلاث نقاط رئيسة هي:
أولاً، قدمت أبحاثاً مثمرة في الكيمياء. ثانياً، اكتشاف أصغر وحدة زمنية حتى الآن، وهي "الفمتو ثانية" وهي تعادل 1على مليون من البليون من الثانية. ثالثاً، ابتكار كاميرا الليزر، التي تمكنت بها من تصوير الجزئيات الدقيقة، وتحديد حركاتها في أي مركب من خلال الزمن الجديد..
هناك من يتساءل بحيرة: ما هي أهمية هذا الاكتشاف العلمي الذي توصل إليه الدكتور "زويل" بالنسبة لنا كأفراد ومجتمعات؟
- "الفامتو سكند" هو فتح علمي للوصول لهذا العامل الزمني لهذه الوحدة الزمنية الجديدة التي لا يعرف العالم عنها شيئاً، وستحدث انقلاباً علمياً وتحولات رهيبة في الطب بفروعه والكيمياء والصناعة والزراعة. أنا اكتشفت زمناً أصغر من الثانية.. زمناً أقل من الثانية بمليون من البليون من الثانية، هذا معناه ببساطة أنني لدي القدرة الزمنية أن أجعلك ترى فيلماً في السينما عن الجزئيات طوله 32مليون سنة، لكي أستطيع أن أجعلك ترى كل ثانية منه.
بمعنى آخر، أنا توصلت إلى تصوير حركة الجزيء، ولو حركته ثانية واحدة أستطيع أن أرى كل فمتو ثانية من حركته. فالآن باكتشاف هذا الزمن الجديد نستطيع أن نصور وندرس الخلية في جسم الإنسان، ونعرف هل الجسم مثلاً سيصاب بمرض السكر أم لا، وإذا كان الجسم سيصاب نستطيع أن نعالج الجزيء، نستطيع أن نصل إلى أن نعرف إذا أخطأت الخلية مثلاً في تنفيذ عملها للحظة واحدة يصاب الجسم بالسرطان، ويمكن أن نمنع الخلية من ذلك.
أضف إلى ذلك، أنه يمكن باستخدام الليزر، وهذا الزمن الجديد "الفمتو" إجراء العمليات الجراحية بدون فتح أو ألم، وبأقل التكاليف، عن طريق تحديد الطبيب لموضع الألم والخلل، وإعطاء جرعات من ضوء الليزر، فتندفع إلى إصلاح الخلل الذي يصيب الخلية.
وكذلك، (للفمتو ثانية) تطبيقات هائلة في ميادين كثيرة لا حد لها، مثل: تخليق مواد جديدة، وعلوم الفضاء، والاتصالات، والاليكترونات، وغيرها.
الطب الجزيئي بعد نوبل
نود أن نعرف منك كيف وقع عليك خبر فوزك بجائزة "نوبل"؟!
- كانت لحظة من اللحظات الوجدانية أو الشعورية التي يصعب على المرء أن يترجمها بلسانه، لقد تجمدت لعدة لحظات بعد المكالمة، ولم أصدق، ثم قبّلت أطفالي، وبلّغتهم بالخبر. وأذكر أنه عندما ذهبت إلى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا لحضور مؤتمر صحفي عقدته هناك، كنت مصاباً بالبرد، لكن يبدو أن إبلاغي بنبأ فوزي بنوبل قتل فيروس المرض وشفاني الله من البرد.
إلى جانب علمك واجتهادك.. هل تعتبر نفسك من المحظوظين؟!
- أنا سعيد الحظ بالفعل، فمثلاً جائزة نوبل، لأول مرة تمنح لمصري عربي، كما أنني حصلت عليها وعمري 53سنة، وهي عادة تمنح لمن تتراوح أعمارهم بين 65- 85سنة، وهذا معناه أن مشواري العلمي سيكون حافلاً بإذن الله.
هل نوبل هي نهاية المطاف - أو بمعنى آخر: ماذا بعد نوبل؟؟
- أملي في السنوات العشر المقبلة أن نتمكن من معرفة الطب الجزيئي بصورة واضحة لأول مرة في تاريخ العلم، وأن نرى تطبيقاته في خدمة البشرية.
أما من الناحية الشخصية، فأتمنى من الله أن تكون جائزة نوبل فاتحة خير على التقدم العلمي والتكنولوجي في مصر والعالم العربي، خاصة أن المشرق العربي هو أرض الرسالات، وقدم أولى الحضارات في تاريخ البشرية.
الوضع العلمي العربي
ما دمت تطرقت لهذا الجانب.. دعنا نسألك عن تقييمك للوضع العلمي في العالم العربي؟
- للأسف.. نحن العرب مشغولون بقضايانا اليومية، كالعمل والدراسة والمواصلات والطعام، لكننا لا نهتم بمناقشة القضايا العلمية والثقافية، قليلون جداً هم الذين يفعلون ذلك.. فليس لدينا ما يسمى بالمجتمع العلمي، أما الشعوب المتقدمة، فهي مشغولة بكل جديد في العلم والعلم، وفي كل المجالات، فتجد الرجل العادي في الغرب لديه معلومات مدنية في العلوم السياسية والاقتصاد، فهذا يخلق ما يسمى بالمجتمع العلمي، بمعنى أن رجل الشارع العادي لا يكون بعيداً عن الأحداث العلمية، ودائماً يبحث عن أخبار العلم وأين موضعه وموضع بلده على خريطة العالم الجديدة.
لذلك لا بد من إعادة صياغة كاملة لحياتنا الاجتماعية، ولا بد من وضع مشروع قومي لصياغة الاتجاه الثقافي والعلمي، بحيث أننا لا نُضيّع الوقت بلا فائدة.
فالبحث العلمي عندنا في مصر والعالم العربي يتميز بالفردية، ومعظم النتائج التي يتوصل إليها هي نتائج فردية، فينقصنا البحث الجماعي، أو فر