علاء الدين والمصباح السحري
كان علاء الدّين فتى مهملا و لم يكن والده مصطفى ليجد سبيلا إلى إثنائه عن غيّه بزجره أو محاولة إقناعه بضرورة تعلّم صنعة الخياطة الّتي ورثها الأب بدوره عن أبيه و يحبّ أن تستمرّ في عقبه . وما أسرع ما استبدّ به القلق و الأسف و هو يرى أتراب ابنه يرتقون في الحرف و الصّنائع و وحيده لا يزيده النّصح إلاّ إمعانا في الطّيش و اللاّمبالاة فمات حسرة و كمدا.
وجد الفتى نفسه فجأة وحيدا في معترك الحياة مسؤولا عن أسرة -لا عهد له بالإحساس بالمسؤوليّة تجاههاوأمّ أجزعها التّرمّل و أقعدها الحزن على فراق زوجها و عائلها .فهي قليلة الحيلة لا تستطيع ضربا في الأرض للحصول على لقمة العيش
وبينما هو ذات يوم يذرع شارع القرية جيئة و ذهابا مفكّرا فيما سيؤول إليه حاله و حال أمّه المسكينة الّتي لا يجد أجرة الطّبيب لعلاجها إذ استوقفه رجل بدت عليه مخايل الغنى و الثّراء و قال : مرحى مرحى يا ابن أخي . فأجابه علاء الدّين في دهشة و استغراب : ما علمت إلاّ السّاعة أنّ لأبي أخا . فردّ العمّ الآتي من غيبته على الفور : ألست علاء الدّينم ابن أخي مصطفى ؟ ! فأسقط في يد الفتى وقال : بلى . و لكنّ والدي قد مات منذ زمن و ما حدّثني عنك يوما .قال: و من أجل هذا أتيت . فما ألمّ بك ألمّ بي رغم بعد الشّقّة بيني و بينكم و ما أصابك و أصاب أمّك أصابني و ما أهمّك أهمّني خذ يا بنيّ! تلك بعض قطع ذهبيّة اقتن بها طعاما و أخبر أمّك بقدومي و انتظرا زيارتي عند الغداء
لمعت القطع الذّهبيّة في كفّ علاء الدّين كبارقة الأمل . و تبدّد فجأة من ذهنه الشّعور باليأس و قبل بعرض عمّه الجديد دون تفكير و انطلق إلى أمّه يزفّ لها المفاجأ السّارّة و الخبر السّعيد فما زادت على أن أبدت استغرابا و تعجّبا
ولمّا حان وقت الغداء طرق الباب . و إذا هو العمّ الجديد قد وصل . فاستقبلته زوجة الفقيد استقبال الضّيوف و رحّبت به في بيتها و شكرت له صنيعه مع ولدها و وعدته بأن تردّ له معروفه عندما تسمح الظّروف بذلك و قد أبدى الرّجل من الحزن و الأسف على فقد مصطفى ما جعلها تصدّق أنّه فعلا أخ لزوجها و عمّ لولدها و هو ما جعلها لا تتردّد في الموافقة على خروج علاء الدّين برفقته في تجارة قريبة يصيب منها ربحا يسيرا و يعود إليها قبل الغروب
و انطلقا فأتيا ربوة في سفح جبل أخشب من من دونهما غابة كثيرة النّبات و الأشجار فقال العمّ لابن أخيه : إيتني بخشب و حطب لعلّي أوقد نارا فأريك ما لا عين رأت . فاساتجاب علاء الدّين
وقدح عمّه النّار بحجرين و أخرج من جرابه بخورا ألقى به إلى النّار فتصاعد الدّخان في أرجاء المكان و العمّيتمتم بكلمات لا يفهمها ابن
الأخ و انشقّت الأرض في سفح الجبل و أفصحت عن صخرة عظيمة شدّت إليها حلقة من نحاس دعي علاء الدّين إلى الاستعانة بها في رفع الصّخرة
ملئ الفتى رعبا و خوفا للوهلة الأولى لما رآه من عجيب عمل الرّجل الّذي أخبره بأنّه عمّه . وبدأ يشكّ في نوايا صاحبه . و لكنّ لباقة الرّجل وقدرته على أن يمنّيه بأن يكون أثرى الأثرياء بفضل الكنز الّذي سيعثر عليه وراء تلك الصّخرة الّتي لا قبل لأحد بزحزحتها غيره جعلته ينخدع مرّة أخرى و يتهيّأ له أنّ العمّ يريد مصلحته .
وما إن أمسك علاء الدّين بتلك الحلقة النّحاسيّة مستجمعا كلّ قوّته لرفع الصّخرة العظيمة حتّى تزحزحت الصّخرة من تلقاء نفسها . وظهر للفتى درج تنتهي درجاته عند قبو مظلم في الأسفل فتنفّس العمّ الصعداء و بدت على وجهه علامات الارتياح و السّرور بالإنجاز العظيم .التفت إلى علاء الدّين وقال له في صوت رقيق حنون : أي بنيّ انزل في هذا الدّرج يصلك بقبو في آخره نفق .
فاسلكه يسلمك إلى باب . قم بفتحه تجد نفسك وسط حديقة في الجانب الأيمن منها مسرب ينفتح على باب ثان إذا ما فتحته وجدت نفسك إزاء فضاء تأتلق أرجاؤه بما يغشاه من بريق الذّهب و لمعان الفضّة و غيرها من نفيس المعادن فما عليك إلا أن تتّجها قدما صوب شرفة تطلّ على بحيرة زرقاء يسبح بها بجع يحاكي ببياض ريشه ماء البحيرة صفاء و في تلك الشّرفة يوجد تمثال لفيل من الذّهب الخالص وضع على أرنبة خرطومه المنتصب إلى الأعلى مصباح قديم يوقد بالزّيت فما عليك إلاّ أن تنتزع الفتيلة و تسكب الزّيت في البحيرة و تعود أدراجك بالمصباح دون أن تلتفت إلى الخلف لتسلّمني المصباح ونعود سويّا إلى البيت .
استمع علاء الدين إلى توجيهات عمّه و همّ بالبنّزول لإنجاز مهمّته فاستوقفه عمّه قائلا : خذ هذا الخاتم وضعه في أحد أصابع يدك فإنّه كفيل بحمايتك من كلّ مكروه .صحبتك السّلامة يا بنيّ
تدحرج علاء الدّين في القبو متّخذا عين المسلك الموصوف . واستولت عليه عوالم عجيبة و مشاهد غريبة و سبته الأشجار بشهيّ ثمارها فهو يقطف من كلّ شجرة تعترضه ثمرة يتذوّقها و يسكّن بها آلام معدة بدأت تعتصر خواءها . و تستوقفه أكياس الذّهب و الفضّة فيأبى إلا أن يملأ منها جيوبه و نطاقه . حتّى إذا بلغ الشّرفة المطلّة على البحيرة حيث الفيل الذّهبيّ أخذ المصباح النّحاسيّ وقفل راجعا بعد مدّة من الزّمن لا يدري مقدارها قضاها داخل القبو و العمّ في الأعلى يتقلّب
على الجمر بسبب تأخّر الفتى عن الخروج إليه بالمصباح الّذي قطع المسافات الطّوال من أجل الحصول عليه . وماإن رآه يهمذ بارتقاء الدّرج حتّى صاح قائلا: إليّ بالمصباح أوّلا .فتردّد علاء الدّين وقال: بل أصعد أوّلا ثمّ أسلّمك المصباح .فزمجر عمّه : المصباح أوّلا و إلا أغلقت المغارة دونك و حبستك بداخلها . فتراجع علاء الدّين و سقط إلى الخلف مهزوما و أدرك أنّ ذلك الرّجل ليس له بعمّ و إنّما هو محض عمّ مزعوم و أنّه مجرّد ساحر أراد استغلاله لتحقيق غاية في نفسه . و أنّ المأزق الّذي هو واقع به لا خلاص له منه إلاّ بمعجزة .
زمجر السّاحر و أرعد ثمّ أزبد بعد أن توعّد و هدّد و تلمّض لسانه بكلمات وطلاسم فتحرّكت الصّخرة و أطبق الظّلام على الكهف .
ودون أن يشعر لامست كفّ علاء الدين ذلك الخاتم الّذي منحه إيّاه السّاحر فمثل بين يديه فجأة خادم للخاتم عظيم قائلا : أنا في خدمة مولاي. لم يكن الوقت مواتيا للتّعبير عن الدّهشة أو حتّى الرّهبة فعبارات التّسخير و الخدمة قرعت أذنه و نزلت على قلبه بردا وسلاما فأدرك بسرعة أنّ خادم الخاتم موجود لخدمته وقضاء حاجته فطلب منه على الفور أن يخرجه من ذلك الكهف المظلم .و قبل أن يرتدّ إليه طرفه وجد علاء الدّين نفسه خارج المغارة و في حوزته المصباح الّذي يجهل حقيقته و الّذي من أجله كاد أن يفقد حياته و تفقده أمّه إلى الأبد .
و رجع علاء الدّين إلى أمّه و قصّ عليها ماحدث مع العمّ المزعوم . فحمدت الله على سلامة ابنها . وهيأت له مكانا للرّاحة فاستسلم للنّوم من حينه كمن يعود من سفر بعيد أو قتال شديد .
ومن الغد استيقظالفتى باكرا وقد شعر بألم في معدته فتذكّر بأنّه لم يأكل شيئا منذ تلك الحادثة عدا بعض الثّمار الّتي اقتطفها من حديقة ذلك القبو وفتحت شهيّته للأكل لحلاوتها فزادته جوعا نسي تسكينه لدى رجوعه لشدّة هلاكه من التّعب . وتذكّر جنّيّ الخاتم و مواهبه العجيبة فطلبه بلمسة من إصبعه فحضر فاستطعمه فإذا مائدة فاخرة حفّت بصنوف الطّعام من سمك و دجاج و لحم ضأن و أطباق الأطايب من حلوى و فواكه و غلال منصوبة بين يديه . دعا أمّه إلى الوليمة فأكلت آكلها و شعر بأنّها أحسن حالا من ذي قبل و بأنّ الحياة قد أسفرت لهما عن وجهها الباسم فسرّا أيّما مسرّة
ولم ينس علاء الدّين ما جمعه من قطع ذهبيّى و فضّيّة فكان يبيعها و يقتني بثمانها ما تحتاج إليه أسرته الصّغيرة من متاع و لباس و طعام و ربما أغدق على فقراء القرية سرّا و علانية و دعاهم إلى طعامه و رزقهم من حيث رزق . و نسي في بحبوحة العيش تلك ما كان من أمر الخاتم و المصباح إمعانا في التّكتّم و التّستّر على سرّ التّنعّم المفاحئ فكان المصباح مهملا في بعض زوايا البيت . حتّى إذا كانت أمّه بصدد ترتيب بعض أشيائها ظفرت به و كان قديما متّسخا فأرادت أن ترميه في سلّة القمامة و استشارت ابنها في الأمر فآثر الاحتفاظ به . و طلب من أمّه أن تنظّفه و ما إن ملرّرت عليه خرقة تريد مسح ماعلق به من غبار حتّى انبعث من داخله دخان انفلق منه انفلاق الصّبح مكن جوف الظّلام مارد عظيم قائلا : مولاي أنا في خدمة صاحب المصباح فعلمت الأمّ بالبديهة أنّ شأن مارد المصبح كشأن جنّيّ الخاتم لكلّ منهما قدرة عجيبة على الفعل .فقالت : دعوناكم عفوا فانصرف حتّى ندعوك مرّة أخرى و حدّثت ابنها بما رأت و سمعت من أمر مارد المصباح فأكبر شجاعتها و رجاحة عقلها
و كان علاء الدّين يخرج كلّ يوم لقضاء بعض الشّؤون بما توفّر لديه من مال آثر استثماره في تجارة لكي لا يذهب هباء فصار من أعيان القرية . و إنّه لفي شغله المعهود ذات يوم إذ مرّت كوكبة من النّساء ذات صباح تحرسهنّ كوكبة من الحرّاس التّابعة للحرس الملكيّ فوقعت عينه على واحدة من بينهنّ لا مثيل لها في حسنها و جمالها . فخفق لها قلبه و حدّثته نفسه بأن يتزوّجهاو تقصّى أثرها بالسّؤال عنها. فعرف أنّها ابنة الملك فأرسل أمّه تطلبها للزّواج . فلم تتردّد و لم يرفض الملك و لكنّه اشترط أن يقدّم خاطب ابنته مهرا يليق بمقام ابنة
الملك قصرا مماثلا لقصر أبيها . فالهدايا الّتي قدّمتها أمّ علاء الدّين على نفاسته لم تكن في قيمة القصر الّذي يجب أن تعيش في كنفه صاحبة السّعادة . و ما إن علم علاء الدّين بشرط الملك حتّى رجع إلى البيت و هو متيقّن من قدرته على إجابة الملك إلى ما يحبّ و يشتهي فتناول المصباح ومسح على ضهره ببطن يده فبرز المارد العظيم . و كانت تلك هي المرّة الأولى الّتي يطلبه منذ أن صرفته أمّه . فأوعز إليه أن ينشئ له قصرا مماثلا لقصر الملك و أن يكون موقعه بإزاء ذات القصر . و أوصاه أن يكون ذلك في أسرع وقت ممكن .
وفي صبيحة اليوم الموالي انتبه الملك من النّوم و أطلّ من الشرفة فرأى عجبا . وعلم أنّ الخاطب قد استجاب للشّرط و أقام البنيان المطلوب لإبرام عقد الزّواج
و تزوّج علاء الدّين من ابنة الملك و أصبح من أمراء البلاد و أثرى أثريائها وذاع صيته في كلّ مكان و شاع خبره بين النّاس حتّى بلغ مسامع السّاحر -الّذي أودعه في الكهف و قفل راجعا على بلاده بعد أن يئس من الحصول على المصباح و ظنّ أنّه دفن علاء الدّين إلى الأبد - فشدّ الرّحيل إلى مقرّ إقامة صهر الملك فمكث غير بعيد عن القصر يترصّد صاحبه حتّى إذا طلع علاء الدّين ذات يوم عليه مع زوجته متنزّها في بعض رياض حفّت بالقصر رآه فتعرّف إليه رغم تحسّن حاله و تخلّصه من أسماله . وعلم السّاحر أنّ علاء الدّين إنّما حقّق ما حقّقه من ثراء و بلغ ما بلغه من نعيم بفضل المصباح السّحري وفكّر في طريقة لاسترجاعه واهتدى إلى حيلة ظلّ يتحيّن الفرصة لتنفيذها .
وذات يوم خرج علاء الدّين إلى الصّيد ولم يكن في القصر سوى زوجته و وصيفاتها فاغتنم السّاحر الفرصة و تنكّر في زيّ تاجر و غيّر من هيئته حتّى لا تبدو عليه مخايل التّحيّل و مرّ أمام القصر وهو ينادي بصوت يسمعه من بالدّاخل و الخارج : من يستبدل مصباحا جديدا بمصباح قديم ؟ فسمعت زوجة علاء الدّين مقالته و كان قد لفت انتبهها وجود ذلك المصباح القديم في إحدى حجرات القصر فلم تر حاجة للإبقاء عليه فدعت إحدى وصيفاتها و أمرتها أن تستوقف المقايض و تبيعه مصباحها القديم بآخر جديد
و ما إن بصر السّاحر بالمصباح حتّى أخذه في لهفة وطلب مارد المصباح فحضر فأمره أن يحمل القصر بمن فيه و يغيّبه عن ذلك المكان و في طرفة عين أصبح المكان خلاء قفرا . وعندما رجع علاء الدّين لم يجد القصر فعرف أنّ أمرا كالّذي حدث لا قبل لأحد بإنجازه عدا مارد المصباح وأن لا أحد يعرف سرّه غير السّاح الّذي لا شكّ أنّه لا يزال يناور لاسترداده فأخذ يؤنّب نفسه على الإهمال و سوء التّدبير
والتّقدير و لكنّه اهتدى أخيرا إلى ضرورة الاستعانة بجنّيّ الخاتم فدعاه على الفور فحضر بين يديه و بدا معاتبا لعلاء الدّين الّذي استغنى عن خدماته زمنا و لكنّه عبّر عن استعداده لخدمته قائلا : أنا في خدمة مولاي ما الّذي أستطيع فعله من أجلك فقال الأمير : أحبّ أن تأخذني على المكان الّذي يوجد فيه قصري و آمرك بأن لا تغفل عن حراستي و قبل أنم يرتدّ إليه طرفه وجد علاء الدّين قصره فتسلّل من الشّرفة و اختفى خلف إحدى ستائر حجرة الأميرة . حتّى إذا عاد السّاحر يريد أن يطلب الأميرة للزّواج خرج عليه علاء الدّين و باغته بضربة من قائم سيفه أفقدته وعيه ثمّ كبّله بالأغلال و فتّش عن المصباح السّحريّ فوجده مخبوءا بين طيّات ثيابه فدعا على الفور خادم المصباح و أمره بأن يرجع كلّ شيء إلى موضعه . وماهي إلا طرفة عين حتّى أقيمت الاحتفالات فرحا بعودة علاء الدّين و زوجته الأميرة إلى جوار الملك
وفي ذلك الاحتفال البهيج تمّت محاكمة السّاحر البغيض اتلّذي أمر القاضي بسجنه مدى الحياة على ما ارتكب من جرم في حقّ علاء الدّين و زوجته إيذانا بانتصار الخير على الشّرّ الّذي قد يربح أصحابه جولة و لكنّ مآله دائما هو الاندحار
كان علاء الدّين فتى مهملا و لم يكن والده مصطفى ليجد سبيلا إلى إثنائه عن غيّه بزجره أو محاولة إقناعه بضرورة تعلّم صنعة الخياطة الّتي ورثها الأب بدوره عن أبيه و يحبّ أن تستمرّ في عقبه . وما أسرع ما استبدّ به القلق و الأسف و هو يرى أتراب ابنه يرتقون في الحرف و الصّنائع و وحيده لا يزيده النّصح إلاّ إمعانا في الطّيش و اللاّمبالاة فمات حسرة و كمدا.
وجد الفتى نفسه فجأة وحيدا في معترك الحياة مسؤولا عن أسرة -لا عهد له بالإحساس بالمسؤوليّة تجاههاوأمّ أجزعها التّرمّل و أقعدها الحزن على فراق زوجها و عائلها .فهي قليلة الحيلة لا تستطيع ضربا في الأرض للحصول على لقمة العيش
وبينما هو ذات يوم يذرع شارع القرية جيئة و ذهابا مفكّرا فيما سيؤول إليه حاله و حال أمّه المسكينة الّتي لا يجد أجرة الطّبيب لعلاجها إذ استوقفه رجل بدت عليه مخايل الغنى و الثّراء و قال : مرحى مرحى يا ابن أخي . فأجابه علاء الدّين في دهشة و استغراب : ما علمت إلاّ السّاعة أنّ لأبي أخا . فردّ العمّ الآتي من غيبته على الفور : ألست علاء الدّينم ابن أخي مصطفى ؟ ! فأسقط في يد الفتى وقال : بلى . و لكنّ والدي قد مات منذ زمن و ما حدّثني عنك يوما .قال: و من أجل هذا أتيت . فما ألمّ بك ألمّ بي رغم بعد الشّقّة بيني و بينكم و ما أصابك و أصاب أمّك أصابني و ما أهمّك أهمّني خذ يا بنيّ! تلك بعض قطع ذهبيّة اقتن بها طعاما و أخبر أمّك بقدومي و انتظرا زيارتي عند الغداء
لمعت القطع الذّهبيّة في كفّ علاء الدّين كبارقة الأمل . و تبدّد فجأة من ذهنه الشّعور باليأس و قبل بعرض عمّه الجديد دون تفكير و انطلق إلى أمّه يزفّ لها المفاجأ السّارّة و الخبر السّعيد فما زادت على أن أبدت استغرابا و تعجّبا
ولمّا حان وقت الغداء طرق الباب . و إذا هو العمّ الجديد قد وصل . فاستقبلته زوجة الفقيد استقبال الضّيوف و رحّبت به في بيتها و شكرت له صنيعه مع ولدها و وعدته بأن تردّ له معروفه عندما تسمح الظّروف بذلك و قد أبدى الرّجل من الحزن و الأسف على فقد مصطفى ما جعلها تصدّق أنّه فعلا أخ لزوجها و عمّ لولدها و هو ما جعلها لا تتردّد في الموافقة على خروج علاء الدّين برفقته في تجارة قريبة يصيب منها ربحا يسيرا و يعود إليها قبل الغروب
و انطلقا فأتيا ربوة في سفح جبل أخشب من من دونهما غابة كثيرة النّبات و الأشجار فقال العمّ لابن أخيه : إيتني بخشب و حطب لعلّي أوقد نارا فأريك ما لا عين رأت . فاساتجاب علاء الدّين
وقدح عمّه النّار بحجرين و أخرج من جرابه بخورا ألقى به إلى النّار فتصاعد الدّخان في أرجاء المكان و العمّيتمتم بكلمات لا يفهمها ابن
الأخ و انشقّت الأرض في سفح الجبل و أفصحت عن صخرة عظيمة شدّت إليها حلقة من نحاس دعي علاء الدّين إلى الاستعانة بها في رفع الصّخرة
ملئ الفتى رعبا و خوفا للوهلة الأولى لما رآه من عجيب عمل الرّجل الّذي أخبره بأنّه عمّه . وبدأ يشكّ في نوايا صاحبه . و لكنّ لباقة الرّجل وقدرته على أن يمنّيه بأن يكون أثرى الأثرياء بفضل الكنز الّذي سيعثر عليه وراء تلك الصّخرة الّتي لا قبل لأحد بزحزحتها غيره جعلته ينخدع مرّة أخرى و يتهيّأ له أنّ العمّ يريد مصلحته .
وما إن أمسك علاء الدّين بتلك الحلقة النّحاسيّة مستجمعا كلّ قوّته لرفع الصّخرة العظيمة حتّى تزحزحت الصّخرة من تلقاء نفسها . وظهر للفتى درج تنتهي درجاته عند قبو مظلم في الأسفل فتنفّس العمّ الصعداء و بدت على وجهه علامات الارتياح و السّرور بالإنجاز العظيم .التفت إلى علاء الدّين وقال له في صوت رقيق حنون : أي بنيّ انزل في هذا الدّرج يصلك بقبو في آخره نفق .
فاسلكه يسلمك إلى باب . قم بفتحه تجد نفسك وسط حديقة في الجانب الأيمن منها مسرب ينفتح على باب ثان إذا ما فتحته وجدت نفسك إزاء فضاء تأتلق أرجاؤه بما يغشاه من بريق الذّهب و لمعان الفضّة و غيرها من نفيس المعادن فما عليك إلا أن تتّجها قدما صوب شرفة تطلّ على بحيرة زرقاء يسبح بها بجع يحاكي ببياض ريشه ماء البحيرة صفاء و في تلك الشّرفة يوجد تمثال لفيل من الذّهب الخالص وضع على أرنبة خرطومه المنتصب إلى الأعلى مصباح قديم يوقد بالزّيت فما عليك إلاّ أن تنتزع الفتيلة و تسكب الزّيت في البحيرة و تعود أدراجك بالمصباح دون أن تلتفت إلى الخلف لتسلّمني المصباح ونعود سويّا إلى البيت .
استمع علاء الدين إلى توجيهات عمّه و همّ بالبنّزول لإنجاز مهمّته فاستوقفه عمّه قائلا : خذ هذا الخاتم وضعه في أحد أصابع يدك فإنّه كفيل بحمايتك من كلّ مكروه .صحبتك السّلامة يا بنيّ
تدحرج علاء الدّين في القبو متّخذا عين المسلك الموصوف . واستولت عليه عوالم عجيبة و مشاهد غريبة و سبته الأشجار بشهيّ ثمارها فهو يقطف من كلّ شجرة تعترضه ثمرة يتذوّقها و يسكّن بها آلام معدة بدأت تعتصر خواءها . و تستوقفه أكياس الذّهب و الفضّة فيأبى إلا أن يملأ منها جيوبه و نطاقه . حتّى إذا بلغ الشّرفة المطلّة على البحيرة حيث الفيل الذّهبيّ أخذ المصباح النّحاسيّ وقفل راجعا بعد مدّة من الزّمن لا يدري مقدارها قضاها داخل القبو و العمّ في الأعلى يتقلّب
على الجمر بسبب تأخّر الفتى عن الخروج إليه بالمصباح الّذي قطع المسافات الطّوال من أجل الحصول عليه . وماإن رآه يهمذ بارتقاء الدّرج حتّى صاح قائلا: إليّ بالمصباح أوّلا .فتردّد علاء الدّين وقال: بل أصعد أوّلا ثمّ أسلّمك المصباح .فزمجر عمّه : المصباح أوّلا و إلا أغلقت المغارة دونك و حبستك بداخلها . فتراجع علاء الدّين و سقط إلى الخلف مهزوما و أدرك أنّ ذلك الرّجل ليس له بعمّ و إنّما هو محض عمّ مزعوم و أنّه مجرّد ساحر أراد استغلاله لتحقيق غاية في نفسه . و أنّ المأزق الّذي هو واقع به لا خلاص له منه إلاّ بمعجزة .
زمجر السّاحر و أرعد ثمّ أزبد بعد أن توعّد و هدّد و تلمّض لسانه بكلمات وطلاسم فتحرّكت الصّخرة و أطبق الظّلام على الكهف .
ودون أن يشعر لامست كفّ علاء الدين ذلك الخاتم الّذي منحه إيّاه السّاحر فمثل بين يديه فجأة خادم للخاتم عظيم قائلا : أنا في خدمة مولاي. لم يكن الوقت مواتيا للتّعبير عن الدّهشة أو حتّى الرّهبة فعبارات التّسخير و الخدمة قرعت أذنه و نزلت على قلبه بردا وسلاما فأدرك بسرعة أنّ خادم الخاتم موجود لخدمته وقضاء حاجته فطلب منه على الفور أن يخرجه من ذلك الكهف المظلم .و قبل أن يرتدّ إليه طرفه وجد علاء الدّين نفسه خارج المغارة و في حوزته المصباح الّذي يجهل حقيقته و الّذي من أجله كاد أن يفقد حياته و تفقده أمّه إلى الأبد .
و رجع علاء الدّين إلى أمّه و قصّ عليها ماحدث مع العمّ المزعوم . فحمدت الله على سلامة ابنها . وهيأت له مكانا للرّاحة فاستسلم للنّوم من حينه كمن يعود من سفر بعيد أو قتال شديد .
ومن الغد استيقظالفتى باكرا وقد شعر بألم في معدته فتذكّر بأنّه لم يأكل شيئا منذ تلك الحادثة عدا بعض الثّمار الّتي اقتطفها من حديقة ذلك القبو وفتحت شهيّته للأكل لحلاوتها فزادته جوعا نسي تسكينه لدى رجوعه لشدّة هلاكه من التّعب . وتذكّر جنّيّ الخاتم و مواهبه العجيبة فطلبه بلمسة من إصبعه فحضر فاستطعمه فإذا مائدة فاخرة حفّت بصنوف الطّعام من سمك و دجاج و لحم ضأن و أطباق الأطايب من حلوى و فواكه و غلال منصوبة بين يديه . دعا أمّه إلى الوليمة فأكلت آكلها و شعر بأنّها أحسن حالا من ذي قبل و بأنّ الحياة قد أسفرت لهما عن وجهها الباسم فسرّا أيّما مسرّة
ولم ينس علاء الدّين ما جمعه من قطع ذهبيّى و فضّيّة فكان يبيعها و يقتني بثمانها ما تحتاج إليه أسرته الصّغيرة من متاع و لباس و طعام و ربما أغدق على فقراء القرية سرّا و علانية و دعاهم إلى طعامه و رزقهم من حيث رزق . و نسي في بحبوحة العيش تلك ما كان من أمر الخاتم و المصباح إمعانا في التّكتّم و التّستّر على سرّ التّنعّم المفاحئ فكان المصباح مهملا في بعض زوايا البيت . حتّى إذا كانت أمّه بصدد ترتيب بعض أشيائها ظفرت به و كان قديما متّسخا فأرادت أن ترميه في سلّة القمامة و استشارت ابنها في الأمر فآثر الاحتفاظ به . و طلب من أمّه أن تنظّفه و ما إن ملرّرت عليه خرقة تريد مسح ماعلق به من غبار حتّى انبعث من داخله دخان انفلق منه انفلاق الصّبح مكن جوف الظّلام مارد عظيم قائلا : مولاي أنا في خدمة صاحب المصباح فعلمت الأمّ بالبديهة أنّ شأن مارد المصبح كشأن جنّيّ الخاتم لكلّ منهما قدرة عجيبة على الفعل .فقالت : دعوناكم عفوا فانصرف حتّى ندعوك مرّة أخرى و حدّثت ابنها بما رأت و سمعت من أمر مارد المصباح فأكبر شجاعتها و رجاحة عقلها
و كان علاء الدّين يخرج كلّ يوم لقضاء بعض الشّؤون بما توفّر لديه من مال آثر استثماره في تجارة لكي لا يذهب هباء فصار من أعيان القرية . و إنّه لفي شغله المعهود ذات يوم إذ مرّت كوكبة من النّساء ذات صباح تحرسهنّ كوكبة من الحرّاس التّابعة للحرس الملكيّ فوقعت عينه على واحدة من بينهنّ لا مثيل لها في حسنها و جمالها . فخفق لها قلبه و حدّثته نفسه بأن يتزوّجهاو تقصّى أثرها بالسّؤال عنها. فعرف أنّها ابنة الملك فأرسل أمّه تطلبها للزّواج . فلم تتردّد و لم يرفض الملك و لكنّه اشترط أن يقدّم خاطب ابنته مهرا يليق بمقام ابنة
الملك قصرا مماثلا لقصر أبيها . فالهدايا الّتي قدّمتها أمّ علاء الدّين على نفاسته لم تكن في قيمة القصر الّذي يجب أن تعيش في كنفه صاحبة السّعادة . و ما إن علم علاء الدّين بشرط الملك حتّى رجع إلى البيت و هو متيقّن من قدرته على إجابة الملك إلى ما يحبّ و يشتهي فتناول المصباح ومسح على ضهره ببطن يده فبرز المارد العظيم . و كانت تلك هي المرّة الأولى الّتي يطلبه منذ أن صرفته أمّه . فأوعز إليه أن ينشئ له قصرا مماثلا لقصر الملك و أن يكون موقعه بإزاء ذات القصر . و أوصاه أن يكون ذلك في أسرع وقت ممكن .
وفي صبيحة اليوم الموالي انتبه الملك من النّوم و أطلّ من الشرفة فرأى عجبا . وعلم أنّ الخاطب قد استجاب للشّرط و أقام البنيان المطلوب لإبرام عقد الزّواج
و تزوّج علاء الدّين من ابنة الملك و أصبح من أمراء البلاد و أثرى أثريائها وذاع صيته في كلّ مكان و شاع خبره بين النّاس حتّى بلغ مسامع السّاحر -الّذي أودعه في الكهف و قفل راجعا على بلاده بعد أن يئس من الحصول على المصباح و ظنّ أنّه دفن علاء الدّين إلى الأبد - فشدّ الرّحيل إلى مقرّ إقامة صهر الملك فمكث غير بعيد عن القصر يترصّد صاحبه حتّى إذا طلع علاء الدّين ذات يوم عليه مع زوجته متنزّها في بعض رياض حفّت بالقصر رآه فتعرّف إليه رغم تحسّن حاله و تخلّصه من أسماله . وعلم السّاحر أنّ علاء الدّين إنّما حقّق ما حقّقه من ثراء و بلغ ما بلغه من نعيم بفضل المصباح السّحري وفكّر في طريقة لاسترجاعه واهتدى إلى حيلة ظلّ يتحيّن الفرصة لتنفيذها .
وذات يوم خرج علاء الدّين إلى الصّيد ولم يكن في القصر سوى زوجته و وصيفاتها فاغتنم السّاحر الفرصة و تنكّر في زيّ تاجر و غيّر من هيئته حتّى لا تبدو عليه مخايل التّحيّل و مرّ أمام القصر وهو ينادي بصوت يسمعه من بالدّاخل و الخارج : من يستبدل مصباحا جديدا بمصباح قديم ؟ فسمعت زوجة علاء الدّين مقالته و كان قد لفت انتبهها وجود ذلك المصباح القديم في إحدى حجرات القصر فلم تر حاجة للإبقاء عليه فدعت إحدى وصيفاتها و أمرتها أن تستوقف المقايض و تبيعه مصباحها القديم بآخر جديد
و ما إن بصر السّاحر بالمصباح حتّى أخذه في لهفة وطلب مارد المصباح فحضر فأمره أن يحمل القصر بمن فيه و يغيّبه عن ذلك المكان و في طرفة عين أصبح المكان خلاء قفرا . وعندما رجع علاء الدّين لم يجد القصر فعرف أنّ أمرا كالّذي حدث لا قبل لأحد بإنجازه عدا مارد المصباح وأن لا أحد يعرف سرّه غير السّاح الّذي لا شكّ أنّه لا يزال يناور لاسترداده فأخذ يؤنّب نفسه على الإهمال و سوء التّدبير
والتّقدير و لكنّه اهتدى أخيرا إلى ضرورة الاستعانة بجنّيّ الخاتم فدعاه على الفور فحضر بين يديه و بدا معاتبا لعلاء الدّين الّذي استغنى عن خدماته زمنا و لكنّه عبّر عن استعداده لخدمته قائلا : أنا في خدمة مولاي ما الّذي أستطيع فعله من أجلك فقال الأمير : أحبّ أن تأخذني على المكان الّذي يوجد فيه قصري و آمرك بأن لا تغفل عن حراستي و قبل أنم يرتدّ إليه طرفه وجد علاء الدّين قصره فتسلّل من الشّرفة و اختفى خلف إحدى ستائر حجرة الأميرة . حتّى إذا عاد السّاحر يريد أن يطلب الأميرة للزّواج خرج عليه علاء الدّين و باغته بضربة من قائم سيفه أفقدته وعيه ثمّ كبّله بالأغلال و فتّش عن المصباح السّحريّ فوجده مخبوءا بين طيّات ثيابه فدعا على الفور خادم المصباح و أمره بأن يرجع كلّ شيء إلى موضعه . وماهي إلا طرفة عين حتّى أقيمت الاحتفالات فرحا بعودة علاء الدّين و زوجته الأميرة إلى جوار الملك
وفي ذلك الاحتفال البهيج تمّت محاكمة السّاحر البغيض اتلّذي أمر القاضي بسجنه مدى الحياة على ما ارتكب من جرم في حقّ علاء الدّين و زوجته إيذانا بانتصار الخير على الشّرّ الّذي قد يربح أصحابه جولة و لكنّ مآله دائما هو الاندحار